الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب إِثْبَاتِ الْحِسَابِ: وَقَوْله: (عُذِّبَ) لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّ نَفْس الْمُنَاقَشَة، وَعَرْض الذُّنُوب، وَالتَّوْقِيف عَلَيْهَا هُوَ التَّعْذِيب لِمَا فيه مِنْ التَّوْبِيخ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى الْعَذَاب بِالنَّارِ، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «هَلَكَ» مَكَان (عُذِّبَ) هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ التَّقْصِير غَالِب فِي الْعِبَاد، فَمَنْ اُسْتُقْصِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسَامَح هَلَكَ، وَدَخَلَ النَّار، وَلَكِنَّ اللَّه تَعَالَى يَعْفُو وَيَغْفِر مَا دُون الشِّرْك لِمَنْ يَشَاء. قَوْله فِي إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث: (عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة) هَذَا مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَقَالَ: اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة، فَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ عَائِشَة، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ الْقَاسِم عَنْهَا، وَهَذَا اِسْتِدْرَاك ضَعِيف، لِأَنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة، وَسَمِعَهُ أَيْضًا مِنْهَا بِلَا وَاسِطَة، فَرَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَتْ نَظَائِر هَذَا. .باب الأَمْرِ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ: قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: يُبْعَث عَلَى الْحَالَة الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، وَمِثْله الْحَدِيث الْآخَر بَعْده: «ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتهمْ». .كتاب الفتن وأشراط الساعة: .باب اقْتِرَابِ الْفِتَنِ وَفَتْحِ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: وَأَمَّا اِجْتِمَاع أَرْبَعَة صَحَابَة أَوْ أَرْبَعَة تَابِعِيِّينَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض فَوَجَدْت مِنْهُ أَحَادِيث قَدْ جَمَعْتهَا فِي جُزْء، وَنَبَّهْت فِي هَذَا الشَّرْح عَلَى مَا مِنْهَا فِي صَحِيح مُسْلِم. وَحَبِيبَة هَذِهِ هِيَ بِنْت أُمّ حَبِيبَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ بِنْت أَبِي سُفْيَان، وَلَدَتْهَا مِنْ زَوْجهَا عَبْد اللَّه بْن جَحْش الَّذِي كَانَتْ عِنْده قَبْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُتِحَ الْيَوْم مِنْ رَدْم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مِثْل هَذِهِ وَعَقَدَ سُفْيَان بِيَدِهِ عَشَرَة» هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَة سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَوَقَعَ بَعْده فِي رِوَايَة يُونُس عَنْ الزُّهْرِيِّ: «وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَام وَاَلَّتِي تَلِيهَا». وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بَعْده: (وَعَقَدَ وُهَيْب بِيَدِهِ تِسْعِينَ). فَأَمَّا رِوَايَة سُفْيَان وَيُونُس فَمُتَّفِقَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَمَّا رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة فَمُخَالِفَة لَهُمَا؛ لِأَنَّ عُقَد التِّسْعِينَ أَضْيَق مِنْ الْعَشَرَة. قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مُتَقَدِّم، فَزَادَ قَدْر الْفَتْح بَعْد هَذَا الْقَدْر. أَوْ يَكُون الْمُرَاد التَّقْرِيب بِالتَّمْثِيلِ لَا حَقِيقَة التَّحْدِيد. وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج غَيْر مَهْمُوزَيْنِ وَمَهْمُوزَانِ، قُرِئَ فِي السَّبْع بِالْوَجْهَيْنِ، الْجُمْهُور بِتَرْكِ الْهَمْز. قَوْله: «أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: إِذَا كَثُرَ الْخَبَث» هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء وَالْبَاء، وَفَسَّرَهُ الْجُمْهُور بِالْفُسُوقِ وَالْفُجُور، وَقِيلَ: الْمُرَاد الزِّنَا خَاصَّة، وَقِيلَ: أَوْلَاد الزِّنَا، وَالظَّاهِر أَنَّهُ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا. و(نَهْلِك) بِكَسْرِ اللَّام عَلَى اللُّغَة الْفَصِيحَة الْمَشْهُورَة، وَحُكِيَ فَتْحهَا. وَهُوَ ضَعِيف أَوْ فَاسِد. وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْخَبَث إِذَا كَثُرَ فَقَدْ يَحْصُل الْهَلَاك الْعَامّ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحُونَ. .باب الْخَسْفِ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَؤُمُّ الْبَيْتَ: قَالَ الْقَاضِي: قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تُوُفِّيَتْ أَيَّام يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فِي أَوَّلهَا، فَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيم ذِكْرهَا؛ لِأَنَّ اِبْن الزُّبَيْر نَازَعَ يَزِيد أَوَّل مَا بَلَغَتْهُ بَيْعَته عِنْد وَفَاة مُعَاوِيَة. ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْره. وَمِمَّنْ ذَكَرَ وَفَاة أُمّ سَلَمَة أَيَّام يَزِيد أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ فِي الِاسْتِيعَاب، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم الْحَدِيث بَعْد هَذِهِ الرِّوَايَة مِنْ رِوَايَة حَفْصَة، وَقَالَ: عَنْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُسَمِّهَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ هِيَ عَائِشَة. قَالَ: وَرَوَاهُ سَالِم اِبْن أَبِي الْجَعْد عَنْ حَفْصَة أَوْ أُمّ سَلَمَة، وَقَالَ: وَالْحَدِيث مَحْفُوظ عَنْ أُمّ سَلَمَة، وَهُوَ أَيْضًا مَحْفُوظ عَنْ حَفْصَة. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ أُمّ سَلَمَة تُوُفِّيَتْ أَيَّام يَزِيد بْن مُعَاوِيَة أَبُو بَكْر بْن أَبِي خَيْثَمَةَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاء مِنْ الْأَرْض» وَفِي رِوَايَة: «بِبَيْدَاء الْمَدِينَة» قَالَ الْعُلَمَاء: الْبَيْدَاء كُلّ أَرْض مَلْسَاء لَا شَيْء بِهَا، وَبَيْدَاء الْمَدِينَة الشَّرَف الَّذِي قُدَّام ذِي الْحُلَيْفَة أَيْ إِلَى جِهَة مَكَّة. 5132- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَؤُمَّنَّ هَذَا الْبَيْت جَيْش» أَيْ يَقْصِدُونَهُ. 5133- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَة» هِيَ بِفَتْحِ النُّون وَكَسْرهَا، أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَجْمَعهُمْ وَيَمْنَعهُمْ. قَوْله: عَنْ (عَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِط) هُوَ بِكَسْرِ الْبَاء (وَيُوسُف بْن مَاهَك) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء غَيْر مَصْرُوف. 5134- قَوْله: «عَبِثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه» هُوَ بِكَسْرِ الْبَاء قِيلَ: مَعْنَاهُ اِضْطِرَاب بِجِسْمِهِ، وَقِيلَ: حَرَّكَ أَطْرَافه كَمَنْ يَأْخُذ شَيْئًا أَوْ يَدْفَعهُ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فيهمْ الْمُسْتَبْصِر وَالْمَجْبُور وَابْن السَّبِيل، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِر شَتَّى، وَيَبْعَثهُمْ اللَّه عَلَى نِيَّاتهمْ» أَمَّا (الْمُسْتَبْصِر) فَهُوَ الْمُسْتَبِين لِذَلِكَ الْقَاصِد لَهُ عَمْدًا، وَأَمَّا (الْمَجْبُور) فَهُوَ الْمُكْرَه، يُقَال: أَجْبَرْته فَهُوَ مُجْبَر، هَذِهِ اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَيُقَال أَيْضًا: جَبَرْته فَهُوَ مَجْبُور، حَكَاهَا الْفَرَّاء وَغَيْره، وَجَاءَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى هَذِهِ اللُّغَة. وَأَمَّا (اِبْن السَّبِيل) فَالْمُرَاد بِهِ سَالِك الطَّرِيق مَعَهُمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ. وَيَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا أَيْ يَقَع الْهَلَاك فِي الدُّنْيَا عَلَى جَمِيعهمْ، (وَيَصْدُرُونَ يَوْم الْقِيَامَة مَصَادِر شَتَّى)، أَيْ يُبْعَثُونَ مُخْتَلِفِينَ عَلَى قَدْر نِيَّاتهمْ، فَيُجَازَوْنَ بِحَسَبِهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفِقْه التَّبَاعُد مِنْ أَهْل الظُّلْم، وَالتَّحْذِير مِنْ مُجَالَسَتهمْ، وَمُجَالَسَة الْبُغَاة وَنَحْوهمْ مِنْ الْمُبْطِلِينَ؛ لِئَلَّا يَنَالهُ مَا يُعَاقَبُونَ بِهِ. وَفيه أَنَّ مَنْ كَثُرَ سَوَاد قَوْم جَرَى عَلَيْهِ حُكْمهمْ فِي ظَاهِر عُقُوبَات الدُّنْيَا. .باب نُزُولِ الْفِتَنِ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ: 5136- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَكُونُ فِتَن الْقَاعِد فيها خَيْر مِنْ الْقَائِم، وَالْقَائِم فيها خَيْر مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فيها خَيْر مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفهُ، وَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأ فَلْيَسْتَعِذْ بِهِ» وَفِي رِوَايَة: «سَتَكُونُ فِتْنَة النَّائِم فيها خَيْر مِنْ الْيَقْظَان، وَالْيَقْظَان فيها خَيْر مِنْ الْقَائِم» أَمَّا (تَشَرَّفَ) فَرُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: أَحَدهمَا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق وَالشِّين وَالرَّاء، وَالثَّانِي يُشْرِف بِضَمِّ الْيَاء وَإِسْكَان الشِّين وَكَسْر الرَّاء، وَهُوَ مِنْ الْإِشْرَاف لِلشَّيْءِ، وَهُوَ الِانْتِصَاب وَالتَّطَلُّع إِلَيْهِ وَالتَّعَرُّض لَهُ. وَمَعْنَى (تَسْتَشْرِفهُ) تَقْلِبهُ وَتَصْرَعهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ الْإِشْرَاف بِمَعْنَى الْإِشْفَاء عَلَى الْهَلَاك، وَمِنْهُ أَشْفَى الْمَرِيض عَلَى الْمَوْت وَأَشْرَفَ. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأ» أَيْ عَاصِمًا وَمَوْضِعًا يَلْتَجِئ إِلَيْهِ وَيَعْتَزِل، فَلْيَعُذْ بِهِ أَيْ: فَلْيَعْتَزِلْ فيه. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَاعِد فيها خَيْر مِنْ الْقَائِم...» إِلَى آخِره، فَمَعْنَاهُ بَيَان عَظِيم خَطَرهَا. وَالْحَثّ عَلَى تَجَنُّبهَا وَالْهَرَب مِنْهَا، وَمِنْ التَّشَبُّث فِي شَيْء، وَأَنَّ شَرّهَا وَفِتْنَتهَا يَكُون عَلَى حَسَب التَّعَلُّق بِهَا. 5138- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْمِد إِلَى سَيْفه فَيَدُقّ عَلَى حَدّه بِحَجَرٍ» قِيلَ: الْمُرَاد كَسْر السَّيْف حَقِيقَة عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث؛ لِيَسُدّ عَلَى نَفْسه بَاب هَذَا الْقِتَال، وَقِيلَ: هُوَ مَجَاز، وَالْمُرَاد تَرْك الْقِتَال، وَالْأَوَّل أَصَحّ. وَهَذَا الْحَدِيث وَالْأَحَادِيث قَبْله وَبَعْده مِمَّا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْقِتَال فِي الْفِتْنَة بِكُلِّ حَال. وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قِتَال الْفِتْنَة، فَقَالَتْ طَائِفَة: لَا يُقَاتِل فِي فِتَن الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْهِ بَيْته، وَطَلَبُوا قَتْله، فَلَا يَجُوز لَهُ الْمُدَافَعَة عَنْ نَفْسه؛ لِأَنَّ الطَّالِب مُتَأَوِّل، وَهَذَا مَذْهَب أَبِي بَكْرَة الصَّحَابِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَغَيْره. وَقَالَ اِبْن عُمَر وَعِمْرَان بْن الْحُصَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَغَيْرهمَا: لَا يَدْخُل فيها، لَكِنْ إِنْ قُصِدَ دَفَعَ عَنْ نَفْسه. فَهَذَانِ الْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَرْك الدُّخُول فِي جَمِيع فِتَن الْإِسْلَام. وَقَالَ مُعْظَم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّة عُلَمَاء الْإِسْلَام: يَجِب نَصْر الْمُحِقّ فِي الْفِتَن، وَالْقِيَام مَعَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْبَاغِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الْآيَة. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَتُتَأَوَّل الْأَحَادِيث عَلَى مَنْ لَمْ يَظْهَر لَهُ الْحَقّ، أَوْ عَلَى طَائِفَتَيْنِ ظَالِمَتَيْنِ لَا تَأْوِيل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُونَ لَظَهَرَ الْفَسَاد، وَاسْتَطَالَ أَهْل الْبَغْي وَالْمُبْطِلُونَ. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله: «أَرَأَيْت إِنْ أُكْرِهْت حَتَّى يُنْطَلَق بِي إِلَى أَحَد الصَّفَّيْنِ، فَضَرَبَنِي رَجُل بِسَيْفِهِ، أَوْ يَجِيء سَهْم فَيَقْتُلنِي؟ قَالَ يَبُوء بِإِثْمِهِ وَإِثْمك، وَيَكُون مِنْ أَصْحَاب النَّار» مَعْنَى (يَبُوء بِهِ) يَلْزَمهُ، وَيَرْجِع، وَيَحْتَمِلهُ أَيْ يَبُوء الَّذِي أَكْرَهَك بِإِثْمِهِ فِي إِكْرَاهك، وَفِي دُخُوله فِي الْفِتْنَة، وَبِإِثْمِك فِي قَتْلك غَيْره، وَيَكُون مِنْ أَصْحَاب النَّار، أَيْ مُسْتَحِقًّا لَهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيث رَفْع الْإِثْم عَنْ الْمُكْرَه عَلَى الْحُضُور هُنَاكَ. وَأَمَّا الْقَتْل فَلَا يُبَاح بِالْإِكْرَاهِ بَلْ يَأْثَم الْمُكْرَه عَلَى الْمَأْمُور بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي وَغَيْره فيه الْإِجْمَاع قَالَ أَصْحَابنَا: وَكَذَا الْإِكْرَاه عَلَى الزِّنَا، لَا يُرْفَع الْإِثْم فيه. هَذَا إِذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَة حَتَّى مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسهَا. فَأَمَّا إِذَا رُبِطَتْ، وَلَمْ يُمْكِنهَا مُدَافَعَته، فَلَا إِثْم. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا: وَأَمَّا كَوْن الْقَاتِل وَالْمَقْتُول مِنْ أَهْل النَّار فَمَحْمُول عَلَى مَنْ لَا تَأْوِيل لَهُ، وَيَكُون قِتَالهمَا عَصَبِيَّة وَنَحْوهَا- ثُمَّ كَوْنه فِي النَّار مَعْنَاهُ مُسْتَحِقّ لَهَا، وَقَدْ يُجَازَى بِذَلِكَ، وَقَدْ يَعْفُو اللَّه تَعَالَى عَنْهُ. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيله مَرَّات، وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّل كُلّ مَا جَاءَ مِنْ نَظَائِره. وَاعْلَمْ أَنَّ الدِّمَاء الَّتِي جَرَتْ بَيْن الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْوَعِيد، وَمَذْهَب أَهْل السُّنَّة وَالْحَقّ إِحْسَان الظَّنّ بِهِمْ، وَالْإِمْسَاك عَمَّا شَجَرَ بَيْنهمْ، وَتَأْوِيل قِتَالهمْ، وَأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَقْصِدُوا مَعْصِيَة وَلَا مَحْض الدُّنْيَا، بَلْ اِعْتَقَدَ كُلّ فَرِيق أَنَّهُ الْمُحِقّ، وَمُخَالِفه بَاغٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِتَاله لِيَرْجِع إِلَى أَمْر اللَّه. وَكَانَ بَعْضهمْ مُصِيبًا، وَبَعْضهمْ مُخْطِئًا مَعْذُورًا فِي الْخَطَأ؛ لِأَنَّهُ لِاجْتِهَادٍ، وَالْمُجْتَهِد إِذَا أَخْطَأَ لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هُوَ الْمُحِقّ الْمُصِيب فِي تِلْك الْحُرُوب. هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة، وَكَانَتْ الْقَضَايَا مُشْتَبِهَة حَتَّى إِنَّ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة تَحَيَّرُوا فيها فَاعْتَزَلُوا الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَمْ يَتَيَقَّنُوا الصَّوَاب، ثُمَّ تَأَخَّرُوا عَنْ مُسَاعَدَته مِنْهُمْ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَقْتُول فِي النَّار لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْل صَاحِبه» فيه دَلَالَة لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّ مَنْ نَوَى الْمَعْصِيَة، وَأَصَرَّ عَلَى النِّيَّة يَكُون آثِمًا، إِنْ لَمْ يَفْعَلهَا، وَلَا تَكَلَّمَ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَة وَاضِحَة فِي كِتَاب الْإِيمَان. 5141- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُمَا عَلَى جُرُف جَهَنَّم» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: (جُرُف) بِالْجِيمِ وَضَمّ الرَّاء وَإِسْكَانهَا، وَفِي بَعْضهَا: حَرْف بِالْحَاءِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ. وَمَعْنَاهُ عَلَى طَرَفهَا قَرِيب مِنْ السُّقُوط فيها. قَوْله: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا غُنْدَر عَنْ شُعْبَة ح وَحَدَّثَنَا اِبْن مُثَنَّى وَابْن بَشَّار عَنْ غُنْدَر عَنْ شُعْبَة عَنْ مَنْصُور بِإِسْنَادِهِ مَرْفُوعًا) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُور، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاك غَيْر مَقْبُول؛ فَإِنَّ شُعْبَة إِمَام حَافِظ فَزِيَادَته الرَّفْع مَقْبُولَة كَمَا سَبَقَ بَيَانه مَرَّات. 5142- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَقْتَتِل فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ» هَذَا مِنْ الْمُعْجِزَات، وَقَدْ جَرَى هَذَا فِي الْعَصْر الْأَوَّل. .باب هَلاَكُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ: وَأَمَّا فِي جِهَتَيْ الْجَنُوب وَالشِّمَال فَقَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب، وَصَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَى رَسُوله الصَّادِق الَّذِي لَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْي يُوحَى. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَسْتَبِيح بَيْضَتهمْ» أَيْ جَمَاعَتهمْ وَأَصْلهمْ، وَالْبَيْضَة أَيْضًا الْعِزّ وَالْمُلْك. قَوْله: «سُبْحَانه وَتَعَالَى: وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُك لِأُمَّتِك أَلَّا أُهْلِكهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّة» أَيْ لَا أُهْلِكهُمْ بِقَحْطٍ يَعُمّهُمْ، بَلْ إِنْ وَقَعَ قَحْط فَيَكُون فِي نَاحِيَة يَسِيرَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي بِلَاد الْإِسْلَام. فَلِلَّهِ الْحَمْد وَالشُّكْر عَلَى جَمِيع نِعَمه. 5145- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اِثْنَتَيْنِ...» إِلَى آخِره، هَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُعْجِزَات الظَّاهِرَة. .باب إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: .باب فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ: 5151- قَوْله: (قَالَ جُنْدُب جِئْت يَوْم الْجَرَعَة فَإِذَا رَجُل جَالِس) (الْجَرَعَة) بِفَتْحِ الْجِيم وَبِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَانهَا، وَالْفَتْح أَشْهَر وَأَجْوَد، وَهِيَ مَوْضِع بِقُرْبِ الْكُوفَة عَلَى طَرِيق الْحِيرَة. وَيَوْم الْجَرَعَة يَوْم خَرَجَ فيه أَهْل الْكُوفَة يَتَلَقَّوْنَ وَالِيًا وَلَّاهُ عَلَيْهِمْ عُثْمَان، فَرَدُّوهُ، وَسَأَلُوا عُثْمَان أَنْ يُوَلِّي عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَوَلَّاهُ. قَوْله: (بِئْسَ الْجَلِيس لِي أَنْتَ مُنْذُ الْيَوْم تَسْمَعنِي أُخَالِفك) وَقَعَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا الْمُعْتَمَدَة (أُخَالِفك) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَقَالَ الْقَاضِي: رِوَايَة شُيُوخنَا كَافَّة بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة مِنْ الْحَلِف الَّذِي هُوَ الْيَمِين. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْمُعْجَمَةِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. قَالَ: لَكِنَّ الْمُهْمَلَة أَظْهَر لِتَكَرُّرِ الْأَيْمَان بَيْنهمَا. .باب لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ: 5155- قَوْله: «لَا يَزَال النَّاس مُخْتَلِفَة أَعْنَاقهمْ فِي طَلَب الدُّنْيَا»؟ قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِالْأَعْنَاقِ هُنَا الرُّؤَسَاء وَالْكُبَرَاء، وَقِيلَ: الْجَمَاعَات. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأَعْنَاقِ نَفْسهَا، وَعَبَّرَ بِهَا عَنْ أَصْحَابهَا لاسيما وَهِيَ الَّتِي بِهَا التَّطَلُّع وَالتَّشَوُّف لِلْأَشْيَاءِ. قَوْله: (فِي ظِلّ أُجُم حِسَان) هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَة وَالْجِيم، وَهُوَ الْحِصْن، وَجَمْعه آجَام، كَأُطُمٍ وَآطَام فِي الْوَزْن وَالْمَعْنَى. 5156- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنَعَتْ الْعِرَاق دِرْهَمهَا وَقَفِيزهَا، وَمَنَعَتْ الشَّام مُدْيَهَا وَدِينَارهَا، وَمَنَعَتْ مِصْر أَرْدَبَّهَا وَدِينَارهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» أَمَّا (الْقَفِيز) فَمِكْيَال مَعْرُوف لِأَهْلِ الْعِرَاق. قَالَ الْأَزْهَرِيّ: هُوَ ثَمَانِيَة مَكَاكِيك، وَالْمَكُّوك صَاع وَنِصْف، وَهُوَ خَمْس كَيْلَجَات. وَأَمَّا (الْمُدْي) فَبِضَمِّ الْمِيم عَلَى وَزْن (قُفْل)، وَهُوَ مِكْيَال مَعْرُوف لِأَهْلِ الشَّام. قَالَ الْعُلَمَاء: يَسَع خَمْسَة عَشَر مَكُّوكًا. وَأَمَّا الْإِرْدَبّ فَمِكْيَال مَعْرُوف لِأَهْلِ مِصْر، قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَآخَرُونَ: يَسَع أَرْبَعَة وَعِشْرِينَ صَاعًا. وَفِي مَعْنَى مَنَعَتْ الْعِرَاق وَغَيْرهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدهمَا لِإِسْلَامِهِمْ، فَتَسْقُط عَنْهُمْ الْجِزْيَة، وَهَذَا قَدْ وُجِدَ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَشْهَر أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَجَم وَالرُّوم يَسْتَوْلُونَ عَلَى الْبِلَاد فِي آخِر الزَّمَان، فَيَمْنَعُونَ حُصُول ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِم هَذَا بَعْد هَذَا بِوَرَقَاتٍ عَنْ جَابِر قَالَ: يُوشِك أَلَّا يَجِيء إِلَيْهِمْ قَفِيز وَلَا دِرْهَم قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ مِنْ قِبَل الْعَجَم، يَمْنَعُونَ ذَاكَ. وَذَكَرَ فِي مَنْع الرُّوم ذَلِكَ بِالشَّامِ مِثْله، وَهَذَا قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا فِي الْعِرَاق، وَهُوَ الْآن مَوْجُود. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ فِي آخِر الزَّمَان، فَيَمْنَعُونَ مَا لَزِمَهُمْ مِنْ الزَّكَاة وَغَيْرهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْكُفَّار الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَة تَقْوَى شَوْكَتهمْ فِي آخِر الزَّمَان فَيَمْتَنِعُونَ مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ مِنْ الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَغَيْر ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» فَهُوَ بِمَعْنَى الْحَدِيث الْآخَر: «بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان. .باب فِي فَتْحِ قُسْطُنْطِينِيَّةَ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: قَالَ الْجَوْهَرِيّ: الْأَغْلَب عَلَيْهِ التَّذْكِير وَالصَّرْف لِأَنَّهُ فِي الْأَصْل اِسْم نَهْر. قَالَ: وَقَدْ يُؤَنَّث، وَلَا يُصْرَف. و(الْأَعْمَاق وَدَابِق) مَوْضِعَانِ بِالشَّامِ بِقُرْبِ حَلَب. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَتْ الرُّوم خَلُّوا بَيْننَا وَبَيْن الَّذِينَ سُبُوا مِنَّا» رُوِيَ (سُبُوا) عَلَى وَجْهَيْنِ: فَتْح السِّين وَالْبَاء، وَضَمّهمَا. قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: الضَّمّ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب. قُلْت: كِلَاهُمَا صَوَاب، لِأَنَّهُمْ سُبُوا أَوَّلًا، ثُمَّ سَبَوْا الْكُفَّار، وَهَذَا مَوْجُود فِي زَمَاننَا، بَلْ مُعْظَم عَسَاكِر الْإِسْلَام فِي بِلَاد الشَّام وَمِصْر سُبُوا، ثُمَّ هُمْ الْيَوْم بِحَمْدِ اللَّه يَسْبُونَ الْكُفَّار، وَقَدْ سَبَوْهُمْ فِي زَمَاننَا مِرَارًا كَثِيرَة، يَسْبُونَ فِي الْمَرَّة الْوَاحِدَة مِنْ الْكُفَّار أُلُوفًا، وَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى إِظْهَار الْإِسْلَام وَإِعْزَازه. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَنْهَزِم ثُلُث لَا يَتُوب اللَّه عَلَيْهِمْ» أَيْ لَا يُلْهِمهُمْ التَّوْبَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّة» هِيَ بِضَمِّ الْقَاف وَإِسْكَان السِّين وَضَمّ الطَّاء الْأُولَى وَكَسْر الثَّانِيَة وَبَعْدهَا يَاء سَاكِنَة ثُمَّ نُون، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق عَنْ الْمُتْقِنِينَ وَالْأَكْثَرِينَ، وَعَنْ بَعْضهمْ زِيَادَة يَاء مُشَدَّدَة بَعْد النُّون، وَهِيَ مَدِينَة مَشْهُورَة مِنْ أَعْظَم مَدَائِن الرُّوم. .باب تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ: 5159- قَوْله: حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ أَنَّ عَبْد الْكَرِيم بْن الْحَارِث حَدَّثَهُ أَنَّ الْمُسْتَوْرِد بْن شَدَّاد قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «تَقُوم السَّاعَة وَالرُّوم أَكْثَر النَّاس» هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم، وَقَالَ عَبْد الْكَرِيم: لَمْ يَدْرِك الْمُسْتَوْرِد، فَالْحَدِيث مُرْسَل. قُلْت: لَا اِسْتِدْرَاك عَلَى مُسْلِم فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَدِيث مَحْذُوفه فِي الطَّرِيق الْأَوَّل مِنْ رِوَايَة عَلِيّ بْن رَبَاح عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُسْتَوْرِد مُتَّصِلًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الثَّانِي مُتَابَعَة، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يُحْتَمَل فِي الْمُتَابَعَة مَا لَا يُحْتَمَل فِي الْأُصُول، وَسَبَقَ أَيْضًا أَنَّ مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَالْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْحَدِيث الْمُرْسَل إِذَا رُوِيَ مِنْ جِهَة أُخْرَى مُتَّصِلًا اُحْتُجَّ بِهِ، وَكَانَ صَحِيحًا، وَتَبَيَّنَّا بِرِوَايَةِ الِاتِّصَال صِحَّة رِوَايَة الْإِرْسَال، وَيَكُونَانِ صَحِيحَيْنِ بِحَيْثُ لَوْ عَارَضَهُمَا صَحِيح جَاءَ مِنْ طَرِيق وَاحِد، وَتَعَذَّرَ الْجَمْع، قَدَّمْنَاهُمَا عَلَيْهِ. قَوْله فِي هَذِهِ الرِوَايَة: «وَأَجْبَر النَّاس عِنْد مُصِيبَة» هَكَذَا فِي مُعْظَم الْأُصُول: (وَأَجْبَر) بِالْجِيمِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْجُمْهُور، وَفِي رِوَايَة بَعْضهمْ (وَأَصْبَر) بِالصَّادِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّل أَوْلَى لِمُطَابَقَةِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «وَأَسْرَعهمْ إِفَاقَة بَعْد مُصِيبَة». وَهَذَا بِمَعْنَى أَجْبَر. وَفِي بَعْض النُّسَخ: (أَخْبَر) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ أَخْبَرَهُمْ بِعِلَاجِهَا وَالْخُرُوج مِنْهَا. .باب إِقْبَالِ الرُّومِ فِي كَثْرَةِ الْقَتْلِ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ: قَوْله: (فَجَاءَ رَجُل لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى إِلَّا يَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود) هُوَ بِكَسْرِ الْهَاء وَالْجِيم الْمُشَدَّدَة مَقْصُور الْأَلِف أَيْ شَأْنه وَدَأْبه ذَلِكَ، وَالْهِجِّيرَى بِمَعْنَى الْهَجِير. قَوْله: «فَيَشْتَرِط الْمُسْلِمُونَ شُرْطَة لِلْمَوْتِ» الشُّرْطَة بِضَمِّ الشِّين طَائِفَة مِنْ الْجَيْش تُقَدَّم لِلْقِتَالِ. وَأَمَّا قَوْله: (فَيَشْتَرِط) فَضَبَطُوهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا فَيَشْتَرِط بِمُثَنَّاةٍ تَحْت ثُمَّ شِين سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق، وَالثَّانِي (فَيَشْتَرِط) بِمُثَنَّاةٍ تَحْت ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق ثُمَّ شِين مَفْتُوحَة وَتَشْدِيد الرَّاء. قَوْله: «فَيَفِيء هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ» أَيْ يَرْجِع. قَوْله: «نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّة أَهْل الْإِسْلَام» هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَالْهَاء أَيْ نَهَضَ وَتَقَدَّمَ. قَوْله: «فَيَجْعَل اللَّه الدَّيْرَة عَلَيْهِمْ» بِفَتْحِ الدَّال وَالْيَاء أَيْ الْهَزِيمَة، وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة مُسْلِم (الدَّائِرَة) بِالْأَلِفِ وَبَعْدهَا هَمْزَة، وَهُوَ بِمَعْنَى الدَّيْرَة، وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ: الدَّائِرَة هُمْ الدَّوْلَة تَدُور عَلَى الْأَعْدَاء، وَقِيلَ: هِيَ الْحَادِثَة. قَوْله: «حَتَّى إِنَّ الطَّائِر لَيَمُرّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يَخْلُفهُمْ حَتَّى يَخِرّ مَيِّتًا» (جَنَبَاتهمْ) بِجِيمٍ ثُمَّ نُون مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة أَيْ نَوَاحِيهمْ، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض رُوَاتهمْ (بِجُثْمَانِهِمْ) بِضَمِّ الْجِيم وَإِسْكَان الْمُثَلَّثَة أَيْ شُخُوصهمْ. وَقَوْله: «فَمَا يَخْلُفهُمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكَسْر اللَّام الْمُشَدَّدَة، أَيْ يُجَاوِزهُمْ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض رُوَاتهمْ: «فَمَا يَلْحَقهُمْ» أَيْ يَلْحَق آخِرهمْ. وَقَوْله: «إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ» هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخ بِلَادنَا: «بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَر» بِبَاءٍ مُوَحَّدَة فِي بَأْس، وَفِي أَكْبَر، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ مُحَقِّقِي رُوَاتهمْ. وَعَنْ بَعْضهمْ: (بِنَاسٍ) بِالنُّونِ أَكْثَر بِالْمُثَلَّثَةِ. قَالُوا: وَالصَّوَاب الْأَوَّل، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ: «سَمِعُوا بِأَمْرٍ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ».
|